Saturday

آيس كريم ( I )

نشرت في صفحة شباب السفير
مايلز آيس

وضع سماعات الآيبود في أذنيه وحدق في الشاشة الصغيرة. كان يرى إنعكاس وجهه بينما تومض الحروف السوداء الثخينة داخل المستطيل الأبيض و تتداخل مع عينيه. 

لقد قام بالأمر نفسه كل يوم على مدى الأشهر الستة الفائتة.
يضع  ملفاته في الحقيبة التي يعلقها على كتفيه بعد أن يتأكد من وجود كل ما يحتاجه في جيبتها الأمامية, و يتوجه إلى خارج المستوصف، حيث يقف لبرهة مراقبا الظل المختبئ تحت قامته من شمس الصيف اللاذعة.
يخطو خطوتين و يلقي نظرة متفحصة على الشارع حوله.

 المشهد مستقر كدائرة بئر سحيق, صالون منال للبنات مقفل و البوابة الحمراء التي تؤدي إلى منزلها نصف مغلقة بحيث تظهر ألوان العريشة الخضراء من خلفها في المدخل. البنت الصغيرة التي لا تغادر منزلها تقف على الشرفة في البيت المجاور, و تحدق في كل شيء تقريبا. تبدو مكتملة برغبة العبور لدرجة أنها باتت كل المكان في عينيها الكبيرتين, لذلك لا يلفت انتباهها وقوفه المريب في الطريق أو مرور  سيارة فجأة و لا حتى أصوات العسكريين على الحاجز في نهاية الشارع. كلهم جزء من عالمها الصامت, في هذه البقعة هي تملكهم, أقرب إليهم من ذاتهم و كل ما يعبر هذه المساحة من أحداث هي تعلمه مسبقا. 

ينظر إلى ساعته, يغمض عينيه و يبدأ بالعد.. واحد .. إثنين .. ثلاثة - ينقر على خانة الجاز- أربعة .. خمسة - قليل ما استمع للجاز أثناء تنقله في المخيم, كان المكان يتطابق تماما مع خلفية من البلوز و الروك - ستة .. سبعة .. ثمانية - في أي يوم آخر كنت لأختار فاتس نافارو  أو جون كولتراين , و لكنني اليوم أشعر بالسحر يتدفق من الأبواب الخفية - تسعة - in a silent way  مايلز دايفيس , هذه مادة سحرية مناسبة - عشرة .. Play  !


حين تبدأ الموسيقى تتوقف كل الأصوات الأخرى. يرفع رأسه.. العسكري يتجه نحوه جريا, و قد بانت عروقه عن بعد. نوال تحاول حشر جسدها الضخم بين البوابة و سيارة والدها, مجاهد يظهر فجأة على الباب المجاور للمكتب, مرتديا كالعادة سرواله القصير و قطنية حفر تظهر وشم قديم بكلمات لم تعد مفهومة على كتفه الأيمن, و من بين رجليه يظهر رأسا ابنتيه الصغيرتين و قد منع مرورهم إلى الخارج. البنت الصغيرة على الشرفة انسحبت إلى غرفتها, فالأمر لا يعنيها , هي تعلم كل شيئ.. يحول نظره إلى الشارع من الجهة الشرقية القادمة من داخل المخيم, و يبتسم.

يلمح الحافلة البيضاء العتيقة  و هي تتهادى بين الحفر كما لو أنها قارب قديم, و من أمامها تركض عصبة من الأطفال و قد سال لعابهم من الفرح و اللذة.. يدير رأسه قليلا, نوال أصبحت في منتصف الطريق و قد حمل وجهها الثلاثيني نفس التفاصيل الموجودة على وجوه الأولاد. مجاهد اقترب أيضا و هو يجر ابنتيه المعلقتين في قدميه كأن هناك رياح عتية قد تقتلعهم من مكانهم , العسكري بات قريبا و قد امتزج العرق بلحيته السوداء و مسدها قليلا. الجميع مخدّر و متحفز بانتظار وصول الحافلة, يتداخل صرير الفرامل و موسيقى السيرك مع الترومبيت السايكدالية. 

إنه وقت الآيس الكريم.

No comments: