Friday

تَخَبُّط

أرغب بالكتابة عن أي شيء, أريد فقط أن أكتب حتى تجف الكلمات في عروقي. هذه الحاجة الملحة بل هذا الشعور التراكمي هو أسمى مظاهر الكبت العاطفي الذي أعاني منه. قد أرغب بالكتابة عن العام فلا أجيد الوصول إلى حبل البداية , و قد أجنح نحو الخاص فأجد في طعم الكلام مرورة العنب الشاب على القلب كما هو على اللسان. و لعل المساحة الوهمية بين العام و الخاص تكون مدخلي إلى نفسي و الأنفاس المتفرقة و المتداخلة حولي.

تقول أمي أن جدتي حين ودعتها و كانت هي عروس إبنة ثمانية عشر عاما, حضنتها و قالت : " هذا إبني , فلتحملينه بين رموش عينيك, و لكن لا تدعيه يسيطر عليك كما فعل أبوه معي". أشعر بعينيها ترتجفان كأرض عتيقة تنوء بحملها, أرى دمعة واحدة تخرج كحجر كبير ما هو إلا فتات من الصخرة القابعة على صدرها. تستطرد والدتي : " أذكر حين توفي جدك كيف جلست أدل حماتي العجوز على أنواع النقود , الحمرا هي الخمسين ليرة و الموف هي العشر الليرات , و هذه ليرة بينما تلك هي القروش." .

البارحة دخلت إلى دكانة أبوحسن الحرامي, هكذا نطلق عليه في الحي ,وهكذا أطلق عليه من سبقونا , لأن الرجل يزيد أسعاره ليلا, و تكثر الحكايات حوله , فتجد بعض الشباب يقولون أنهم حين بقوا في الحرب الأخيرة لأداء واجبهم التنظيمي والوطني, كان أبوحسن يبيعهم علبة التونا بخمسة ألاف وربما بعشرة. الليلة الفائتة ذهبت لأشتري علبة دخان, فرفض أن يعيد الفراطات المتبقية من الحساب ,هكذا بدون حجة. فوجدت نفسي و أنا اهم بالخروج أمد يدي و أسرق كيس من الفستق و اخرج به دون أن يران أحد. مع أنني كنت أرفض أخذ زجاجة البيبسي الزائدة التي قد تعطيها ماكينة الكولا في الجامعة, إلا أنني شرعت لنفسي سرقة من سرقني. وربما هي تجربتي الأولي في السرقة , و قد أثبتت فشلها التام, وهكذا وضعت غنيمتي اللا شرعية على الرصيف قربي وبقيت لوهلة أنظر إليها و أمج من سيجارتي بشراهة. في اليوم التالي عدت إليه, إشتريت علبة دخان و أخبرته أن يخسم ألف ليرة عن مشترى قد نسيت أن أدفعه. و قد آلمتني التجربة بحديها, فأنا لم أشعر بدفء الإنتقام على قلبي البارد بل بحرارة الجرم على قلبٍ حرارته لا تتوقف عن الإرتفاع, و لا شعرت براحة الأمانة على نفسي التي تؤنب ذاتها بإستمرار لكل الجرائم التي تدورفي فلكها و خارجه أيضا . بقيت كما أنا, سرقت من السارق فإكتأبت, و أعدت للسارق شبه حقه و زادت كآبتي منه ومن نفسي و من المدينة بأسرها.

سألنني أم صديقتي عن البحر الذي أستجم فيه , فأخبرتها أنني من رواد الشاطئ العام. ولكنني لا أحب الزحام ولاكثرة المستجمين ,فهم يلوثون البحر ويسرقون من الشاطئ هدوءه و من الجبال المحيطة به روحانيتها الخاصة. أسفت المدام لذلك فهي تحب العجقة كما تستهوي علمانيتها مشهد السابحات بالبيكيني فرب السابحات بثيابهن الشرغية. و لمحت في عينيها نشوة أعرفها حق المعرفة, و هي من النوع السطحي تماما, العامة إلى حد الجهل إن شأتم. أخبرتها أنني أفرش لنفسي قرب المخيم,فهناك أستطيب الهدوء و أشعر بأن البحر ملكي , و الجبال التي حوله سندي النفسي و السماء فوقه صلاتي. كما أن التلوث يخف و لا تفاجأني اكياس النيلون وقشور البطيخ أثناء سباحتي, كما أنني لا أضطر أن أنقذ فتاة نزلت بثوبها الشرعي في الماء فأثقلها و أغرقها, ومن ثم حين أرفعها إلى الشاطئ و تسترد أنفاسها , أراها تنظر إلي شزرا هي ومن حولها و تسألني بفظاظة كيف خولت لنفسي لمسها و هي حرام علي.

حدثت رفيقي البارحة عن هوايتي المتجددة منذ عودتي إلى مدينتي, وعِدَتُها قصبة صيد ,بعض العجين , و الآيبود المليء بألبومات بينك قلويد. أخبرته أنني أصطاد على المباركة,فالسنسول بات ماءه ملوثا بزيوت القوارب و نفطها. والمباركة صخرة وضعت عليها أيقونه في زمن سابق و نسج البحرية قصص كثيرة حولها. قلت له أن الصيد برفقة والترز أو غيلمور هو أجمل رياضة روحية تقوم بها. أماصاحبته التي أنصتت لحديثنا , رأت بي همجي يقتل الأسماك الصغيرة الطيوبة. لم أستطع برغم ميولي الخضراء الكبيرة أن أعير ملاحظتها أي إهتمام. إبتسمت قليلا لها , و غيرت موضوع حديثنا المقتضب, و فكري بوالترز يودع السماء الزرقاء بينما أنا أسْمّرُ تحتها و صنارتي يهتز بلبلها في الماء معلنا عن بورية تفقد ذاكرتها بإستمرار وقد أكلت طعمها وطعامها الأخير.

أنام على ظهري وتهدهد لراحتي الأمواج التي تحملني, أفتح يدي و أبدأ أتمتم صلاتي دون سجود ولا ركوع. يقول والدي أنك حين تصلي تشعر براحتين. الطمأنينة الروحية و راحة القيام بواجب أوعمل مؤجل بإستمرار. أما أنا فصلاتي البحرية أو المائية , أجدها صوفية بإمتياز, ولعلي أربطها بأجمل ما في ذاكرتي الطفلة ,وهوالعلاقة المميزة بين كائني الإنسي و البحر بفرادته القدسية.

أظن الكتابة تجسيد لهروبي المستمر, و لكن هربي منها يثقلني بخواطري الهجينة. على الأقل حين أكتب أشعر بعقلانية ما, تنفي البوهيمية الزرقاء عن روح تظن أنها متعبة بإستمرار, الأبوية والتلوث والدين و الأرض والسحر و الذكورية و الفقر و التعتير و الظلم و تلال حولي كانت تقصف كل يوم في مشهدية الرعب المتلألأة على بؤبؤ عيني الطفلة. و هكذا كلما غنيت تهويدة لهاجس فنام, إستيقظ غيره و أثقل ليلي بأرق لايفارقني إلاو كحل العيون قبل أن تتعب و تنام.

4 comments:

Andalus said...

شكرا" على هذة المساحة للتنفس

Hachem said...

أنا سعيد بإنك عم تحس هالشي. شكرا على المرور و الدعم المستمر

Nada said...

تنهيدتي الأولى :)

سأتابع الشرب من زرقة ماءك

Hachem said...

إبتسامتي الأولى ..
very glad you like it