Monday

المدينة - تَهكُّم

نشرت في صفحة "شباب السفير"ي

أما أنا فمدينتي أنهكتها الحياة, و كثيرا ما تلاقينا على فكرة أن الآوان قد حان لتسونامي يجرف عنها الحياة المتقلبة و الغالية الثمن في جوانبها. لطالما عاشت المدن و ماتت, ثم عادت او عادت قربها أو في مكان آخر.
و هي المدينة من اول حجر إلى آخر قلب نابض فيها, أخبرتني حين أسررت لها عن شغفي بأبنيتها العتيقة, أنني أقرب ما أكون إلى السذاجة لأن تلك الأبنية كالندوب التي لا يختفي أثرها, و خلف كل حائط تتبجج بتواصلك العاطفي معه حيوات إكتملت, بؤس كثير, زخات رصاص, أصوات موت, و الكثير الكثير من الحظ العاثر. ثم نبهتني أن البناء الذي إستوقفني منذ مدة و أعييت نفسي بحثا عن ترجمته شعرا , قطنه جزار قبيل الحرب الأهلية, و أغنى خلالها لأنه صار المورد الرئيسي لإحدى الميليشيات, و في الغرفة التي تخيلت فيها فتاة صغيرة تعزف البيانو و إعتقدت أنك فعليا تسمع صداه من تراب نوافذها العتيقة, قام الجزار بإغتصاب صبية ضغيرة أهداه إياها أحد " القواد " جزاء على مآدبه الفاخرة.

أخبرتها انني أرى في البؤس تجرد الجمالية في النفس الإنسانية, رغم يقيني بأنني أكذب, و لكنني لست مستعد للتجرد من رؤيتي الرومانسية. مدينتي قبيحة جدا بالعيون العملانية, فالرجل اللطيف الذي أحييه كل صباح هو نفسه من باع لحم كلاب إلى حي باكمله على أنه ذبيحة بلدية, و الفتى الذي يخرج إلى مدرسته متأنقا كان يبكي في سريره طوال الليل لأنه رأى والده يتحرش بالفيلبينية التي جاءت من أقصى آسيا لتعمل في مدينته الرائعة. و أبو جميل صياد السمك الذي تتوقف قربه كلما خرجت للركض على الكورنيش صباحا و الذي لطالما نقلت إعجابك بتجاعيد جبهته و شبهتها بأبوة مدينتك الرقيقة, كان يضرب إبنته طوال الليل لرفضها الزواج من جارهم الأرمل بحجة رغبتها بمتابعة دراستها الجامعية. و بائع الخضار المتجول الذي يوقف عربته قرب مبناك المفضل و تحت الشرفة التي تئن بحشرجة الفتاة القديمة, هو رجل طيب فعلا , لم يغمض جفنه طوال الليل و هو يفكر بأقساط الاولاد المستحقة و بكيفيه تامين ثمن لدواء زوجته المريضة ب"ذلك المرض العضال".

في مدينتي هندي يلبس رداء أخضر طوال اليوم و ينظف قمامتها مقابل دولارين او ثلاثة في النهار الواحد, هل تبعتهم مرة واحدة أثناء تجوالك الليلي بحثا عن الإلهام. ربما لو إستمعت لدقات قلبه لفعلت , و بحثت عنه , ستجده ليلا ينام على حصير عتيق , يضع يديه خلف رأسه و ينظر إلى السماء من شباك برج غير مكتمل البناء, و حوله تتناثر أجساد سمراء أخرى, أحدها من حيدر أباد و آخر من بومباي و آخر كشميري وجهه مليء بآثار الجدري و عيناه السوداوين تسبحان بقطرات الدموع التي تتجمع طوال النهار.

و أنت نفسك حين تقسو عليك الحياة لن تعود راكضا بحثا عن هوائي لتخبئ جزعك, لن تستمع إلا لنبضك و لهاثك المستمر و أنت تعبر قرب ذات المشهد الذي أجللت و كتبت عنه, تبحث وسط الغلاء المستمر عن حفاضات طفلك الثاني, و تعد حبات العرق التي ذرفتها دون أن تجد معادلة جبرية واحدة تبرر تدني قيمتها السحيقة أمام العملة الاميريكية الصعبة.

دع المشاهد الليلة تنسحب على جفنيك الواحدة تلو الأخرى, يفصل شارع ضيق بين موقف السيارات المقتظ أمام الكريستال و الأبنية المهترئة التي يقطنها موظف صعير, ميكانيكي و أولاده الخمسة, سمعان الختيار و إديت السليلة.

في الحديقة العامة لا تستمع لأصوات العصافير و لا تنتظر ظهور سنجاب مذعور, أكثر ما يمكن الحصول عليه هو التأقلم مع اللكنة الكردية و ربما اللغة نفسها, هذا إن لم يطغى على المشهد السمعي أبواق السيارات الكثيفة و ربما زمامير الموكب المار أمام وزارة الداخلية حيث يقف دركي شاب يحاول التخلص من نقاط العرق التي تذرفها الشمس الحارقة, و تعلق في منتصف ظهره تحت البدلة المدججة. و في سيارة الهيئة السياسية صبية متأنقة بنصف ثياب, إستعارت موكب أبيها لتتناول الغداء مع رفيقاتها في فندق الفينسيا.

إن كنت لا أجيد النظر إلى مدينتي بعينين مفتوحتين, فلا أملك الحق بالنظر خلسة من عين واحدة, و لا حق الإدعاء بأنني أغمض عيني و أحلم بها.

مدينتك ليست المشهد العام الذي تقف عنده طويلا في مقطع وجداني خبيث من رواية, و ليست المشهد الذي تعيد بناؤه و أنت تقف في مجرة أخرى لا تجاري الزمان و المكان و الساعة. بل هي مجموع المشاهد الصغيرة في القلوب التي تحييها, و مجموع الندوب المستترة و القطب الخفية. و في القرن العشرين لو جمعت كل الفرح الصغير فيها و كل القبلات و كل الحب لما إكتمل من البورتريه الذي ترسمه سوى إنش في كعب الحقيقة. و مع ذلك , ما زالت تسكرك رائحة الفل الذي تزرعه جارتك على الشرفة و تتوهم أنها المدينة.

No comments: