Wednesday

كعــك بلجيكــي



كعك بلجيكي
والون وفلامون: أزمة الحكم والهوية إياها.. لكن بلا «من يحزنون»


أستطيع أن أخبركم أن الوضع السياسي في بلجيكا متأزم، وقد أنتج حكومة مرحلية أنصفت الخاسرين بالانتخابات النيابية أكثر مما أنصفت بعض الفائزين. وتم ذلك بعدما بقيت البلاد بلا حكومة لمدة تسعة أشهر تقريباً، لم يرتفع خلالها سعر رغيف «الباغيت»، ولا سعر اللحوم، ولم ينفجر معدل البطالة، ولا زادت هجرة الموارد البشرية، ولا حتى هجرة رؤوس الأموال.
واللافت في الخلاف الحاصل هو أنه ليس من طبيعة سياسية، وإنما يطرح أسئلة مفصلية أيديولوجياً في الانتماء والمواطنية، واقتصادياً على مستوى توزيع الثروات بالتساوي في ظل نظام اقتصادي موحد تحت سماء أقدم فيدرالية في أوروبا.
هناك إذاً أزمة هوية بين «الوالون» و«الفلامون» (الفلامنك)، ولقد أتت تسميتهم نسبةً للغة كل منهم: الوالونية هي لغة لاتينية اقترنت بالفرنسية في القرن السادس عشر بعدما كانت الفرنسية الحالية لغة الصالونات البرجوازية، والفلامانية هي لهجة محكية هولندية بالتعريف، وهي لغة سكان المقاطعات الفلمنكية في بلجيكا بشكل خاص.

على سيرة أزمة الهوية، تتكرر في المجالس اللبنانية هنا، للتندر طبعاً، فكرة أن يكون الفيروس قد انتقل من بيروت إلى بروكسيل، وقد يكون سيرج براميرتس هو من قام بنقله، أو ربما بعض الجنود البلجيكيين العاملين في الوحدات الدولية في جنوب لبنان.

شخصياً، لم يضحكني الأمر بقدر ما صدمني عمق الخلاف في البلد الذي يحتضن عاصمة الاتحاد الأوروبي. فلو كنا في أفريقيا مثلاً، لكان العالم نظر إلى الأمر كخلاف إثني بين الفرانكوفون والنيرلاندوفون، ولكان الباحثون درسوا الأمر من زاوية الصراع الطبقي، بين الوالون الفقراء الذين يشكّل العمال قسماً كبيراً منهم، وبين الفلامون الذين يعيشون حياة رغيدة ويمتلكون أغلبية رؤوس الأموال. ولكان البعض ربما قد صوّروا الخلاف السياسي على أنه نتيجة طبيعية لوصول أحزاب يمينية، بعضها ذو طابع انفصالي، إلى الحكم.
إلا أن بروكسيل الحالمة بقيت كما هي، لم يتغير وجهها إطلاقاً، ولم تكثر الزيارات الدولية إليها، ولم يلقِ جورج دبليو أو المتحدث باسم البيت الأبيض خطبة صداقة ومحبة للشعب البلجيكي، ولم تشهد السفارة الأميركية حركة متسارعة، ولم يخرج ولو السفير الأميركي متنقلاً بين القصر الملكي والقيادات السياسية، كـ«الفرنينة» التي سكنت عوكر، وطالبت باحترام الديموقراطية والانتخابات الشرعية. حتى الجارة الأقرب والأكبر لبلجيكا، أي فرنسا، لم تستثر من أجل بلجيكا.
وهنا، تجدر الإشارة إلى أن فرنسا، رغم التقارب اللغوي وحجم التبادل الاقتصادي والثقافي مع بلجيكا، لم تكن يوماً في نظر الطرفين أماً حنون أو شقيقة كبرى. ولم يشر أي رئيس فرنسي إلى أن بلجيكا هي الخاصرة الرخوة. ولم يهتز الكرملن بفعل رنين الهواتف. ولم يشحب وجه أنجيلا ميركل. وستتابع هولندا سياستها المعتدلة وستبقى بلد التوليب والماريجوانا. ولم يستقبلوا قيادات بلجيكية تأتيهم للتنفيس عن همومها أو للنق وطلب الدعم السياسي. لم يتوجه بان كي مون إلى الشعب البلجيكي في خطبة نهاية العام، ولم يدعُ بابا الفاتيكان المؤمنين إلى التزام الهدوء وتصفية القلوب، حتى أنه لن يصلي من أجلهم ولا من أجل راحة بالهم.
لكن، حين تتجول في العاصمة، ستلفت نظرك الأعلام الملكية البلجيكية التي ازدادت مؤخراً على الشرفات، بمبادرات فردية طبعاً. إذ لم يقم أي حزب سياسي بتوزيع الأعلام على مناصريه، ولا انطلقت تظاهرات مليونية حزبية في أي منطقة بلجيكية.
وهنا تجدر الإشارة إلى أن آخر التظاهرات الكبيرة مشت من أجل التوصل إلى حل يحفظ فيديرالية البلد ووحدته، وقد دعت إليها منظمات أهلية.

أذكر أن ناشطاً سياسياً، كنت قد التقيت به للمرة الأولى خلال التظاهرات الرافضة لحرب تموز، قد اتصل بي لمشاركتهم في التوعية، على اعتبار أني شاهد حي على صراع الأخوة الأعداء، وأستطيع، مثل الكيني والرواندي، أن أفيدهم بتجربتي. قمت بذلك بدافع التهذيب فقط. وحين تناقشنا لاحقاً، لم أحدثهم عن الوحدة الوطنية، بل حدثتهم عن فرنسا والسعودية وإيران وسوريا وأميركا، وعلّمتهم عبارة بالعربي تقول: «لاك روحوا بعدكم بألف خير».

ما زال وسط بروكسيل أبرز المعالم السياحية في العاصمة، وما زال السائحون يسرحون ويمرحون ويلتقطون الصور!

شباب السفير - الأربعاء 16/01/2008- بروكسل)

No comments: