Wednesday


نشرت في صفحة "شباب السفير".


في البداية  كانت نهاية الكثير من التساؤلات الأولية و الأسئلة المعلقة عبر أزمنة خلت.

و في البداية, كنا على الطريق بعد أن قطعنا البلد من شرقه إلى غربه. ربيع يقود السيارة بسرعة هائلة و يحدثني عن مشهد طبيعي سيتضح لنا بعد قليل. كان الهواء يسرق معظم الكلام و لكنني شعرت من حماسته بأن المكان ربما مألوف لديه أو مرتبط بذكرى ما، فلبثت أحدق من النافذة بانتظار انحسار الجبل بينما  أشعر بأنني فرودو باغينز و قد عدت إلى " الشايّر " بعد رحلة موردور الشاقة.

 - "هناك , هناك ! " صرخ ربيع متأوها كأنه يردد موال فلكوري, و قد استبدت الحماسة به فوثب في مقعده مشيرا إلى نقطة مجهولة , كنت قد تعودت على قيادته المجنونة, و خفت أن يفقد السيطرة على العربة العجوز . حين أدرت  وجهي  المذهول من ردة فعله و انعدام التوازن في السيارة, ترآى لي في "لحظة شاسعة" مشهد لوني يفيض بمكوناته. البحر الأبيض العظيم , بحيرتنا المقدسة, و سهول خضراء من البساتين تخرج من أطرافه و تتسلق الهضاب المنتشرة على اليابسة.  

 ربيع  الذي أثاره المشهد كثيرا, أرجع ظهره إلى الخلف, و أدار زر الصوت إلى حده الأعلى, فانطلق بوق فاتس نافارو عبر موجات خرافية من العزف الهستيري.

- "هذه الموسيقى تشبه هذا المكان حتما" صرخ و هو يتجه بالسيارة نحو جانب الطريق و قد كبح فراملها فتوقفت بعد أن أثارت غبارا كثيفا من خلفها. تبقى لدينا  بعض الشراب في زجاجة حملناها من الليلة الفائتة, فترجلنا و وقفنا بصمت قرب حافة المنحدر ننتظر سقوط الشمس و انتهاء اللون.

كان لدي تحفظاتي على مقاربات ربيع للموسيقى, فهو يشعر بها من زاوية وصفية. لقد أخبرني حين كنا نتنقل بين القرى في السفوح الشرقية بأن المكان و الناس يذكرانه بالموسيقى الفلكلورية اليوغسلافية. حتى أنه رقص طوال الليل على أنغام "بريغوفيتش" في إحدى الحانات الشعبية و قد تفاعل معه الأهالي بشكل إيجابي. و  مع ذلك فإن موسيقى الأعراس و الجنائز التي ينحدر منها هذا النمط الموسيقي  تشبه أسلوب العيش في القرى أينما وجدت دون أن تعكس جغرافية  المكان و مكوناته بدقة. 

دونت هذه الملاحظات دون أن أشاركها معه، فبالنسبة لرجل يضع الموسيقى في مستوى الوحي الرباني كان كلامي هذا تجذيفا و هرطقة. لن يجديني التبرير بأنني لا أحاول أن أحدد الإبداع من حريته, و لكنني كنت أبحث يائساً عن السؤال الذي يجب أن أركز في حله  كي أتقدم. و قد كانت خياراتي كثيرة جدا بسبب كمية العقد التي يحملها الفرد في مجتمع إستهلاكي متقدم , يعج بالرموز المحافظة, و يقع في منطقة لا تتوقف فيها الحروب.

التفت ناحية ربيع الذي كان يتلوى كالأفعى مستمتعا بإرتجالات الجاز. لقد حسدته منذ طفولتنا على قدرته الهائلة لتحييد وجوده عن المؤثرات المستمرة بالعبث في مصائرنا.

- هل تظن أن هناك مؤلف مجهول الآن يحاول أن يجد الموسيقى الملائمة لحياتنا المشتركة في هذه الجزيرة؟ 

- "هل هذا ما تبحث عنه حقا ؟ ".  أجابني دون أن تتوقف قدميه عن الهز كأنه يمارس الرقص النقري.

- طبعا, أبحث عن الموسيقى التي هي المجاز الحقيقي للمشهد. و هو حتما ليس "بي بوب" نافارو أو باركر أو ديزي أو براون. هؤلاء يشدون بمجازات "الغيمة التي تقبع فوق الليل الأميريكي" ، أجبته بحدة  فيما  تابعت انسحاب الظلال من جسدينا و التحاقها بالظلام. 

بعد دقائق من السكون الذي لم يعكر صفوه سوى هدير القليل من السيارات المارة، سمعته يتمتم: 
- كانت جدتي تقول أنه في الليل يتحول البحر إلى مخلوق أسطوري يتنفس ببطء كل القصص التي ترويها عنا الرياح و يحبك لنا الأحلام.

ثم أضاف بصوت أعلى،  متوجها نحو مقعده خلف المقود : " و لكن لا جدوى من مراقبة نومه، فالطريق لا تنتظر".

 قال ذلك و هو يحدق في عيني كأنه يذكرني بأننا نعود على الطريق، لا إليها، حيث تتساوى البدايات و النهايات في هامشيتها أمام تراكم المشاهد.

- "نعم ولكن ما الذي تخفيه ، ما هو التفصيل المختبأ في المجاز المترامي ؟ "

لقد كان محقا,  من الواضح أن البحث في الحانات و المزاجات البديلة لم يجدي نفعا حتى الآن. ما الذي أتوقع الوصول إليه .. عما أبحث خلف الإجابة عن سؤالي ؟

- " أظنك تبحث عن ما هو مشترك بيني و بينك و بين المؤلف الموسيقي المجهول"

- "أظنني أبحث عن روح هذا الجيل" .. ربما هذا هو السؤال  المناسب





No comments: